الأربعاء، 22 أكتوبر 2008

3 كوارث رأسمالية تهّز كوكب الأرض / سعد محيو

ثلاث أزمات - كوارث كبرى تعصف بالعالم دفعة واحدة هذه الأيام:أزمة الغذاء، أو بالأحرى الجوع، العالمية.أزمة النظام المالي الدولي.وكارثة تغيّر مناخ الأرض.ثمة أم شرعية واحدة لهذه الأزمات الثلاث: الرأسمالية. لكنها أم عاقة للغاية، وشريرة للغاية. فهي ترفض الاعتراف بأمومتها لهذه الأزمات، من ناحية، وحتى حين تعترف ببعض مسؤوليتها، فهي تتهرب من البحث عن حلول جديّة لها.إلى أين يمكن أن تقود هذه الكوارث؟سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك وقفة أمام طبيعة هذه الأزمات.ونبدأ مع المعضلة المالية.«الكازينو»الأزمة المالية العالمية، والتي استنفر قادة الدول الصناعية السبع ومعهم قباطنة المؤسسات الاقتصادية الدولية (صندوق النقد، البنك الدولي، المصارف المركزية) كل طاقاتهم لوقف تداعياتها الكارثية لم تكن، كما ادعى البعض، مجرد أزمة عابرة سببها اضطراب سوق العقار الأميركي، أو انفصال الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي، أو انخفاص ثم ارتفاع أسعار الفائدة، بل هي (كما قالت «فاينانشال تايمز» الرأسمالية) أزمة بنيوية سببها الأعمق العولمة النيو - ليبرالية المنفلتة من عقالها، والفجوة التي لا تني تتوسع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة.رب محتج هنا: ما الجديد في كل هذا الذي يجري؟ ألم يشهد النظام الرأسمالي مرات عديدة طيلة المئتي سنة الماضية من عمره سلسلة أزمات دورية كان يخرج منها دوماً ليس فقط سالماً، بل أقوى؟ أليست الأزمات هي تعبير عن السر الكبير الذي يمنح النظام الرأسمالي طاقته الهائلة على التجدد والانبعاث من جديد «كما مع مصاصي الدماء الذين يقومون دائماً من الموت» (على حد تعبير ماركس) وهو، أي السر،: «التدمير الخلاق»؟ بعد كل من أزمات 1876، و 1929، و 1971، و 1997 - 1998 و 2001، كان النظام الرأسمالي يعاين الدورة التقليدية انتعاش - ركود - انتعاش، ويثبَت أقدامه بعدها بشكل أفضل.كل هذا قد يكون صحيحاً. لكن الصحيح أيضاً أن الأزمة الراهنة قد لا تشبه تماماً الأزمات السابقة. كيف؟خلال حقبة العولمة النيو - ليبرالية التي بدأت في سبعينيات القرن العشرين، مرت المراكز الرأسمالية الكبرى بعملية «لا تصنيع» أو نزع التصنيع (deindustrialization) انتقلت بموجبها الرأسمالية الغربية من الاعتماد على الأسواق المحلية - القومية إلى الشكل المتعولم الحالي من العولمة، عبر نقل الصناعات الثقيلة الملوثة إلى الصين والهند وغيرهما. وترافق ذلك مع «تحرير» أسواق المال ونزع كل القيود المنظّمة لها، مما أدى إلى هجرة جماعية للرساميل إلى «الجنّات الآسيوية»، وأيضاً إلى تقسيم عمل دولي جديد: التكنولوجيا المتطورة، والبحث والتطوير، والسلع «الخاصة» (الخدمات المالية) في المراكز الرأسمالية، والعمليات الصناعية التقليدية في الأطراف.هذا التطور لم يؤد فقط إلى خلق بطالة واسعة النطاق في الغرب، بل أيضاً إلى توسّع هائل للأسواق المالية التي تعولمت بسرعة، فبات القطاع المالي في بريطانيا، على سبيل المثال، مسؤولاً عن نصف النمو الاقتصادي فيها، وكذا الأمر بالنسبة للقطاع المالي - العقاري في أميركا حتى العام 2006. وكلا القطاعين اعتمدا بشكل كامل على المضاربة وليس على الاقتصاد الحقيقي.لقد قال المحللان اليساريان جون سارغيس وتاكيس فوتوبولوس إن ظاهرة سيطرة الطبقة المالية - المصرفية، حوّلت الرأسمالية من «نظام» اقتصادي يستند إلى قواعد تنظيمية واضحة، إلى «فوضى» كازينو القمار الذي يقوم على مبدأ «المخاطرة الكبيرة لتحقيق الأرباح الكبيرة».ومرة أخرى، هذا ليس تطوراً جديداً. لكنه مع ذلك يتضمن عامل جدة في غاية الأهمية: «الكازينو» الآن لم يعد قصراً على المراكز الرأسمالية الكبرى، بل هو أصبح «كوكبياً»، أي يطال الكرة الأرضية كلها، وأزمته الراهنة تنذر بركود وربما كساد عالميين كبيرين هذه المرة.مرة أخرى أيضاً، قد تنجح الرأسمالية بتخطي هذه الأزمة الكبرى الجديدة، بالطبع على أشلاء عشرات ومئات ملايين صغار المستثمرين وضحايا الحروب الرأسمالية المقبلة التي ستشن للخروج من المشكلة الراهنة.عبقرية الرأسماليةلا أحد بالطبع على وشك التشكيك بعبقرية الرأسمالية العالمية وبقدرتها الفائقة على التطور والتأقلم.عدوها اللدود كارل ماركس نفسه لم يستطع ذلك. وهو أسبغ عليها صفات مثل «الظاهرة التقدمية»، والحديثة، والثورية، برغم تآمره لـ «دفنها في مزبلة التاريخ».في أوائل القرن العشرين، كانت اللازمة التي تبناها معظم المحللين والمفكرين، هي أن الرأسمالية استنفدت أغراضها وباتت مثل فيل في غرفة، وأن بديلتها الاشتراكية آتية لا محالة.لكن المفاجأة الكبرى حدثت: الفيل بقي في الغرفة، وبديله غادرها.وفي أواسط القرن الماضي، تنبأ العديد من الاقتصاديين بأن المستهلكين لن يستطيعوا استيعاب السلع الكثيفة التي تفرزها أدوات إنتاج رأسمالية متطورة. فإذا بالرأسمالية تفاجئهم بإنتاج الرغبات قبل السلع. فهي لم تعط المستهلكين ما يريدون، بل جعلتهم يريدون ما تعطيهم. وهذا كان انقلاباً هائلاً لا مثيل له في التاريخ.ثم في أوائل التسعينيات، ومع بروز العولمة كنظام حياة وايديولوجيا (برغم أنها ليست شيئاً آخر غير الرأسمالية العالمية بحلة جديدة)، سرت المقولة بأن الثورة الاجتماعية العالمية آتية بسبب الفروقات الهائلة بين السوبر - أغنياء والسوبر - فقراء. الفروقات حدثت، لكن الثورة لم تقع. بدلاً منها نشأت مراكز رأسمالية ضخمة جديدة في الصين والهند، ستؤسس لاحقاً لما قد يثبت أنه أكبر تجمع للطبقات الوسطى في كل الحضارات البشرية.ما سر هذه «العبقرية» الرأسمالية؟رد وحيد يبدو مقنعاً: تطابق أنانية الإنسان المفرطة مع «قدسية» نظام الملكية الخاصة الذي توفّره الرأسمالية. هذا بالإضافة إلى نزعة الرأسمالية الدائمة إلى التطور والتغيّر والتوسّع.كارثة المناخلكن، وبعد قول كل شيء عن إبداعات الرأسمالية، يبقى السؤال: إلى متى تستطيع هذه الأخيرة مواصلة الحياة على هذا النحو الباذخ، الذي تستنزف فيه قدرات كوكب الأرض الطبيعية، وتدفع معه الطبيعة البشرية إلى أقصى حدود توحشها الأناني؟هذا السؤال يقودنا إلى التطرق إلى الأزمة الثانية: المناخ.الكاتب البريطاني تيموثي آش كتب مؤخراً أن لحظة الحقيقة بالنسبة للرأسمالية العالمية أزفت، بعد أن أنضبت اقتصاداتها خلال أربعة قرون وقوداً أحفورياً احتاجت الطبيعة إلى 400 ألف سنة لتخميره، وبعد أن أدى حرق هذا الوقود إلى ظاهرة تغير المناخ.وبما أن الرأسمالية لا تستطيع تغيير جلدها، عبر التوقف عن النمو والتوسع، فالكارثة برأيه آتية لا محالة.هذه الحقيقة دفعت الكاتب الأميركي ألان وايزمان إلى وضع كتاب بعنوان «العالم من دوننا» الذي أثار، ولا يزال، ضجة كبرى في أميركا والعالم حملت اليافطة العريضة: «كوكب أرض بلا جنس بشري».حاول الكاتب أن يتخيّل كيف يمكن أن يكون الكوكب الأزرق إذا ما انقرض منه الستة مليارات نسمة إما بفعل فيروسة طبيعية أو مخبرية قاتلة، أو بتأثير كويكب كذاك الذي ضرب الأرض قبل 65 مليون سنة وأدى إلى انقراض الديناصورات.الكتاب أصبح سريعاً الأكثر مبيعاً وترجم إلى 30 لغة، وتلته برامج تلفزيونية في «ناشنال جيوغرافيك» و «هيستوري تشانيل» تحوّلت هي الأخرى إلى الأكثر مشاهدة (5 ملايين مشاهد خلال شهر(.لكن، لماذا هذا الهوس الجماهيري بتلك الفكرة الخيالية؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنر كيف يمكن.أول ما سيحدث حين تكون الأرض من دون بشر هو الهبوط الكبير في مستويات التلوث. فالطائرات والسيارات، والآلات الصناعية والجرارات، ومكيفات الهواء والتدفئة على الوقود، والأسلحة المطلقة للأشعة، كلها ستزول بفعل الصدأ والتآكل، مما سيؤدي إلى توقف تغير المناخ بفعل سخونة الجو. الغابات ستستعيد ما سلبته منها الصروح الإسمنتية في المدن، والأعشاب الخضراء ستستولي على طرقات الإسفلت وجدران الأبنية، والزهور والرياحين ستكون في كل مكان. المحيطات ستتطهر من أدران التلوث، وستعود الأنهار والينابيع إلى طهرانيتها السابقة.البشر الملوثون للبيئة لن يبق منهم من أثر، سوى تلك البصمات التي ستتركها كبسولات الفضاء «فواياجير» برقائقها الإلكترونية التي تتضمن معلومات بيانية عن الحامض الجيني البشري، والنظام الشمسي، وصوراً لأطفال ومدن، و 26 تسجيلاً موسيقياً بينها «القيثارة السحرية» لموزارت. الكبسولات ستكون قادرة على البقاء في الكون لأكثر من مليار سنة، لكنها لن تكون بالنسبة لأي حضارة فضائية تعثر عليها أكثر من تأريخ لجنس منقرض وحضارة فشلت في البقاء.لماذا هذا الهوس بفكرة أرض بلا بشر؟ببساطة لأن البشر قد يصبحون قريباً بلا أرض، أو بالأحرى بلا قشرة الحياة الخضراء الرقيقة التي لا تعلو سوى بضعة سنتيميترات عن سطح هذا الكوكب. القلق على مصير الحياة بات حقيقة واقعة وملموسة، ليس فقط بفضل آلاف العلماء الذين يؤكدون وجود تغيّر في المناخ بسبب التلوث الاصطناعي، بل أيضاً بفعل الأعاصير والتسونومويات والزلازل التي بلغت في السنوات الأخيرة مستويات عنف غير مسبوقة منذ آلاف السنين.الرأسمالية، قائدة النظام الاقتصادي العالمي الراهن، غير قادرة على تغيير نفسها لوقف تغيّر المناخ. لكن، هل هي وحدها غير القادرة على تغيير جلدها؟ ماذا عن الطبيعة البشرية التي ترعى ما يسميه فرانسيس فوكوياما «الجينة الأنانية» التي هي في أساس «حرب الجميع ضد الجميع»؟ أليست هذه هي الأخرى مسؤولة؟ ولو أن البشر قنعوا بأن يراكموا قدراً معقولاً من المال يكفي لتحقيق أمنهم وتأمين سعادتهم، ألم يكن هذا سيقود إلى إلغاء الفقر والعوز في العالم، وإلى أنظمة اقتصادية أكثر رحمة بالبيئة وتأقلماً معها؟الرأسمالية لم تكن لتزدهر وتبقى لو لم تكن تطبيقاً للشعار الشهير «كما تكونون يولّى عليكم». وهذه حقيقة يجب أن نعترف بها نحن البشر ونندم عليها أيضاً. فنحن في النهاية، وجنباً إلى جنب مع الفيروسات، نعتبر المخلوقات الوحيدة التي تدمر البيئة من حولها، في خضم صراعنا من أجل البقاء.الرأسمالية عبقرية؟أكيد. لكن هذا فقط لأننا نحن البشر أغبياء!عالم جائعنأتي الآن إلى الأزمة الأخيرة: الغذاء.الشهر الماضي عقد قادة مجموعة الثماني الكبار قمتهم المنتظرة «للبحث في إيجاد حلول لأزمة الغذاء العالمية»، كما وعدوا.لكن، هل سيكونون قادرين على ذلك؟حتماً قادرون. لكنهم حتماً أيضاً غير راغبين لسبب رئيس: إنهم أساساً (أو على نحو أدق النظام الرأسمالي الذي يمثّلون)، الذين اخترعوا المشكلة. هم الخصم والحكم. فهل يطلب ممن تسبّب بالداء أن يتبرع بالدواء؟قباطنة الرأسمالية يرمون من وراء أزمة الجوع، إلى تحويل العالم برمته إلى مختبر عضوي واحد تسيطر فيه شركات البيوتكنولوجيا العملاقة على إنتاج الطعام وتصنيعه وتطويره وتسويقه. وحين ينجزون هذا الانقلاب التاريخي، ستصبح هذه الشركات أقوى قطاع في الاقتصاد العالمي، إلى درجة أن لوبيي النفط والمجمع الصناعي - العسكري فائقي القوة، سيبدوان أمامها أشبه بدكان صغير ملحق بـ «سوبرماركتها» الكبير.هذا الانقلاب بدأ يتحقق بالفعل عبر وسيلتين: «تحرير التجارة» وإلغاء دعم الزراعة والمزارعين في العالم الثالث الذي يضم ثلثي سكان العالم، تمهيداً (وهنا الوسيلة الثانية) لجعل هذا العالم معتمداً على كل ما تنتجه الشركات من بذور معدّلة جينياً.آثار أقدام الانقلاب مبعثرة في كل مكان. لكنها تبدو فاقعة في بلدين أكثر من غيرهما هما المكسيك والفيليبين، لأنهما شهدتا أولى نتائج تطبيق هذه التوجهات.جوع المكسيك لا يمكن فهمه بدون تذكّر الحقيقة بأن صندوق النقد والبنك الدوليين، حوّلا البلاد من اقتصاد مصدّر للذرة إلى مستورد لها. القصة بدأت مع أزمة الديون في ثمانينيات القرن العشرين، حين أجبرت المكسيك على توسّل الدعم المالي لخدمة ديونها. الصندوق والبنك استجابا، لكن لقاء ثمن باهظ: إزالة رسوم الضرائب الحمائية، ووقف الدعم الحكومي للسلع الزراعية. الضربة التي تلقتها الزراعة بسبب ذلك كانت قوية، لكنها لا تقارن بشيء بتلك التي وجّهت لها العام 1994، حين وضعت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (النافتا) موضع التطبيق. إذ سرعان ما اجتاحت الذُرة الأميركية أسواق المكسيك، مما أدى إلى قصم ظهر زراعة الذُرة المكسيكية، فتحوّلت حينها المكسيك إلى مستورد صاف للمواد الغذائية. وهذا كان أمراً غريباً في بلد اكتشف الزراعة قبل خمسة آلاف سنة.القصة نفسها تكررت في الفيليبين. قبل الأزمة الحالية، كان 10 في المئة فقط من إنتاج الأرز فيها يخضع للتجارة. لكن الأسعار تضاعفت ثلاث مرات هذا العام، وتحوّلت الفيليبين فجأة من دولة مكتفية ذاتياً في مجال الأرز، الذي هو الغذاء الرئيس في البلاد، إلى الدولة الأولى في العالم في مجال استيراده، مهما كان سعره!ديكتاتور الفيليبين السابق ماركوس يمكن إدانته بكل الجرائم، لكن ليس بينها تجويع المزارعين. فهو قدّم لهم البذور والسماد المدعوم، والقروض الميسّرة. لكن، في عهد الحكومات الديمقراطية، ولا سيما حكومة أكينو، انقلبت الآية بعد أن انضمت الفيليبين إلى منظمة التجارة العالمية العام 1995. فقد استغل صندوق النقد وقوع البلاد في براثن الديون (26 مليار دولار)، لفرض شروطه الخاصة حول «تحرير التجارة» وإلغاء الدعم. مانيلا رضخت، فكانت النتيجة أشبه بالأعاصير: جوع ومجاعة وتراجع حاد في الإنتاج الزراعي لصالح استيراد الحبوب من أميركا.تجارب المكسيك والفيليبين تكررت في كل أنحاء العالم، والهدف الرئيس (كما أشرنا) دمج الدول النامية في نظام معولم تسيطر على إنتاج الحبوب واللحوم المعدّة للتصدير فيه شركات متعددة الجنسيات.ومن يتحدث بإسم هذه الشركات وينطق باسمها؟ليس أحد آخر سوى قادة مجموعة الدول الثماني أنفسهم ،الذين يعدون الآن بحل كارثة الجوع الراهنة.إنها حقاً كوميديا مضحكة، مثيرة للبكاء!ثورتانالآن: إذا ما جمعنا هذه الأزمات - الكوارث الثلاث ووضعناها في أنبوب واحد ثم عمدنا إلى خضه، علام سنحصل؟على أحد أمرين: ثورة عالمية على الرأسمالية، أو ثورة من الطبيعة على الرأسمالية وكل البشر معاً.المرشحون للثورة على الرأسمالية كثر:1 - القوميون الذين سيتمسّكون بدور الدولة - الأمة ووجودها، في مواجهة العولمة الرأسمالية التي تعتبر أن دور الدولة انتهى وجاء دور الحكومة العالمية. حدث هذا من قبل مع موجة العولمة الأولى في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حين تحدت الدول القومية الجديدة البازغة في ألمانيا واليابان نظام العولمة الذي فرضته الإمبراطورية البريطانية، مما أدى إلى نشوب الحرب العالمية الأولى وانفراط عقد النظام العالمي برمته.2 - حركات التحرر في العالم الثالث، ولا سيما في أميركا اللاتينية والعالم الإسلامي، التي ستشكل رد فعل على القسمة العالمية الجديدة بين مجتمعات ما بعد حديثة غنية وآمنة وتتكون من 20 في المئة من سكان الأرض، وبين مجتمعات ما قبل حديثة يحكمها الفقر وتسودها الفوضى وتضم 80 في المئة من الأرضيين.3 - الحركات الليبرالية اليسارية في الولايات المتحدة، التي ستكون طرفاً رئيساً في الحرب بين الديمقراطية والرأسمالية. هذه الحركات قد تشكّل رأس الحربة في الثورة العالمية الجديدة، بسبب التراث الديمقراطي المتجذر في أميركا.4 - وأخيراً، التيارات الفاشية التي قد تفيد من تدمير الحدود بين الدول الذي تقوم به العولمة لإحياء الروح القومية المتطرفة ضد الأجانب والمهاجرين، ولا سيما في الدول الأوروبية الغنية.كما هو واضح، لائحة المرشحين للتمرد كبيرة وطويلة. وهي قد تزداد كبراً وطولاً مع ازدياد حال التمزق الاجتماعي الذي تتسبب به الرأسمالية العالمية في مرحلة تطورها الراهنة.لكن مهلاً.كل هذه القوى المعترضة لن تتمكن لا منفردة ولا حتى مجتمعة من تشكيل خطر على الرأسمالية. فهذه جابهت من قبلُ أطرافاً متمردة أعتى بكثير من تلك الموجودة الآن، على رأسها الاشتراكية والشيوعية، وسحقتها الواحدة تلو الأخرى. وهي ستنجح الآن في إخضاع القوى الجديدة سواء بقوة السلاح أو بإغراء الاستتباع.الجهة الوحيدة التي يمكن أن تدك أسوار القلعة الرأسمالية الحصينة هي.. الطبيعة.كيف؟فلنتخيّل السيناريو الآتي: مسألة تغير المناخ وارتفاع حرارة الأرض يتحولان من مادة للجدل إلى حقيقة واقعة. وهذا يترجم نفسه في سلسلة مدمرة من الأعاصير والفيضانات والأوبئة والأمراض التي تفرض اتخاذ إجراءات سريعة من كل أمم العالم لوقف عملية الاحترار وإعادة التوازن إلى الطبيعة. على رأس هذه الإجراءات تطبيق ما يطالب به الآن عدد من الاقتصاديين المتنورين: وقف النمو الاقتصادي وجعله يتوقف عند العدد صفر، وتغيير النظم الاجتماعية - الاقتصادية لجعلها تعتمد على مبدأ التضامن والتكيف مع أمنا الطبيعة، لا على قيم الربح والسيطرة على الطبيعة.هذه الإجراء، في حال حدوثه، سيكون الرصاصة الفضية التي ستصيب من قلب الرأسمالية مقتلاً. إذ لا رأسمالية من دون توسع، ولا توسع من دون نمو بلا حدود أو قيود.لكن السؤال الكبير هنا هو: هل سيبقى هناك بشر بعد هذه الكوارث الطبيعية الزاحفة، ليقوموا بإقامة نظام عالمي ما بعد رأسمالي متوافق مع ظروف كوكبنا الأزرق؟سؤال مخيف، لكنه محق. محق تماماً في الواقع! سعد محيو مجلة الرأي الآخر