الخميس، 29 مايو 2008

تنمية التخلف أم تخلف التنمية: المفهوم الذريعة, اليد الخفية والهيمنة على الطبيعة التزايد المهول لتلويث هواء المدن الكبرى، والماء الشروب والبيئة بشكل عام وارتفاع حرارة الكوكب، وبداية ذوبان جليد المناطق القطبية، وتكاثر الكوارث "الطبيعية" وبداية تدمير طبقة الأوزون، وإتلاف متسارع للغابات الاستوائية وتقلص سريع للتنوع الإحيائي بانقراض آلاف الأنواع، وإنهاك التربة، والتصحر وتراكم النفايات لاسيما النووية والمتعذر تدبيرها، وتكاثر الحوادث النووية وخطر حادثة جديدة من قبيل تشيرنوبيل، وتلوث الغذاء والتصرف في الجينات. هذه هي أهم المشاكل التي تبرز في سياق تحليلنا للوضع العالمي وبالخصوص الدول المتخلفة، كل هذه المشاكل تشير إلى خطورة الوضع: فمن الواضح أن الركض المجنون وراء الربح، والمنطق الانتاجوي والتجاري للحضارة الصناعية يقودنا إلى كارثة بيئية ذات أحجام بيئية غير قابلة للقياس. وليس انسياقا في "نزعة كارثية" الإقرار بكون التوسع الرأسمالي يهدد بدمار الأسس الطبيعية لحياة البشر على كوكب الأرض.
إن الاقتصاد الرأسمالي ذو نزعة تدميرية للموارد الطبيعية ويتسبب في اختلال توازناتها واستنزافها. إن السببان الرئيسيان المؤديان إلى تدهور المحيط الطبيعي معروفان؛ ففي أحد قطبي الكوكب نجد مراكمة الثروات المنتجة بدون مراعاة لتوازن الأنظمة البيئية إلى حد استنزاف الثروات. أما دول الجنوب، فالفقر هو الذي يحكم على السكان بالتخلي عن ثرواتهم لمن يدفع أكثر.
وبالتالي نستحضر هنا مشكل عدم التوازن بين دول الشمال ودول الجنوب. وفي هذا الإطار يعتبر E. TOSAN وD. MILLET:"أن البلدان الغنية تفرط في الإنتاج والاستهلاك، مما يجعل الإنسانية تستهلك الثروات بأكثر من 40 % مما يمكنها إنتاجه بشكل مستدام" . يتبين من خلال هذا المقتطف بأن الدول الصناعية تنهج أسلوبا اقتصاديا مبدأه الرئيسي هو الربح، لكنها فطنت لمشكل البيئة فأصبحت تصدر صناعاتها الملوثة لمختلف دول الجنوب التي تظل في حاجة إلى تلك الاستثمارات القادمة من الخارج. فعلاوة على ترحيل وحدات إنتاجية خطيرة (الصناعة الكيماوية) فهناك اليد العاملة الرخيصة (تدني الأجور):"إن آلة المديونية الساحقة ترغم البلدان النامية على قبول تحويل صناعات الشمال الملوثة جدا إلى أراضيها. ويساهم إخضاع الجنوب عن طريق مأزق الديون في جعله سلة مهملات للشمال . "
وهذا المنطق يبين زيف كل شعارات التنمية التي تصكها المؤسسات المالية: إذ أضحت التنمية بهذا المعنى إنتاجا هجينا وشاذا وذلك بغية الهيمنة والسيطرة على كل الشعوب. فالمؤسسات المالية التي تمد العالم الثالث بالمساعدات هي نفسها المسؤولة عن الأضرار البيئية في هذه الدول؛ وفي هذا الإطار نتذكر ما قاله لورنس سمرز: الاقتصادي والقيادي في البنك الدولي سنة 1991 والذي سيصبح فيما بعد وزير الخزينة الأمريكي في عهد بيل كلينتون، حيث يقول:"إن الفكرة القائلة بأن علينا فرض حدود على النمو بسبب حدود طبيعية هي فكرة خاطئة بشكل كبير، وهي إضافة إلى ذلك فكرة سيكون ثمنها الاجتماعي مذهلا إذا تم تطبيقها. إن المنطق الاقتصادي الذي يجب علينا بموجبه أن نتخلص من النفايات السامة في البلدان ذات الأجور الأكثر انخفاضا هو في رأيي منطق لا عيب فيه" إنها صياغة هجينة تكشف منطق الرأسمال الشامل على نحو أفضل من كل الخطابات المهدئة حول "التنمية" التي أنتجتها المؤسسات الدولية. ففهم ما قاله لورنس سمرز لا يحتاج جهدا كبيرا لاستيعابه، والأكثر من هذا أن هذه اللوبيات الاقتصادية الكبرى تمادت في إخلالها بتوازنات النظام البيئي سواء من خلال المشاكل البيئية المذكورة سابقا أو من خلال استغلالها لبعض الميادين العلمية التي أصبحت مختبراتها عبارة عن مقاولات في خدمة طموحات هذه الشركات الكبرى. ويتضح هذا الأمر بجلاء من خلال الأبحاث الخاصة بالبيوتكنولوجيا Biotechnologie وتقنية التحويلات الجينية (الهندسة الوراثية) التي تم استغلالها خصوصا في ميدان الزراعة سواء من أجل الزيادة في الإنتاج أو إجراء تعديلات جينية على مختلف النباتات والحيوانات لأهداف اقتصادية بحثة. وفي هذا الإطار تقول مارجريت ميلون M. MILLON :
“De surcroît, le génie génétique est aujourd’hui principalement entre les mains de multinationales très puissants, les quelles ont la main mise sur les grandes orientation de recherche”
إن هذه الشركات ومعها المؤسسات الدولية لا تتوانى في استخدام العلم والتكنولوجيا وتوجيهها لخدمة مصالحها خاصة. والمنطق المتحكم في تصرفاتها.كما جاء مع مارجريت ميلون هو:
«Le credo est : si on peut le faire, on le fera»
بالإضافة إلى هذه الأبحاث، هناك أبحاث أخرى تجرى على جينات الإنسان بهدف التدخل في نسله، لكن المشكل المطروح هنا هو تبعات استخدام هذه التقنيات، حيث أن هذه العلوم لا تستطيع أن تتكهن بنتائج هذه العمليات، والتي تخضع لمبدأ عدم التراجع Irréversibilité. زد على ذلك البعد الأخلاقي لهذه التحويلات الجينية، لهذا يطرح سؤال عنيد: ما هو الإنسان الذي سنجده في المدى البعيد؟ وماالهدف من التكنولوجيا؟ هل للقضاء على الفقر وعلى الأمراض وتطوير الأبحاث العلمية أم أنها للربح والمردودية وزيادة التفاوتات بين الدول، إنها مفارقة عجيبة: التطور السريع للتكنولوجيا إلا أنها لا تلعب أدوارا على المستوى الطبيعي والاجتماعي! فبدل أن تحاول هذه الدول الصناعية ومعها كافة المؤسسات الدولية على أن تجد حلولا ناجعة للمشاكل التي تعاني منها البشرية، نجدها تؤزم الوضع أكثر عن طريق التغيرات الجينية (مثلا جنون البقر...)؛ إنها تعمل بمنطق واحد: الزيادة في المنتوجات والاستهلاك المتوحش، مما يعمق من تلك المشاكل ويزيد من الهوة بين دول المعمور. وفي هذا الإطار تقول مارجريت ميلون:
«D’abord on pousse la recherche à trouver des produits pour répondre aux problèmes plutôt que d’essayer de trouver purement est simplement des solutions » .
لهذا فإذا كنا نصبو إلى تنمية مستديمة تعود بالنفع على الإنسان باعتباره مركز هذه التنمية وباعتباره كذلك فاعل رئيسي في محيطه البيئي، لابد أن تكون هناك تغييرات وإعادة النظر في هذا النموذج الاقتصادي وطرق اشتغاله.
محمد اطاك كلميم والنواحي



1- إيريك توسان، داميان مييه:"خدعة الديون"، ترجمة مختار بن حفصة، دار الطليعة الجديدة، الطبعة الأولى، 2005، ص: 185.
2-Robert Ali Brac de la perrière, Arnaud Trollé : «le piège transgénique ?», Editions Charles léopold Mayer, 1999, p : 40.

ليست هناك تعليقات: